انتظار الرجاء الذي طالت مدته 4000 عام
في بداية إعلان الله المكتوب للبشريّة، قدّم لنا الوحي بأوّل إصحاحين مِن سِفْر التّكوين (أي في بداية كتاب التّوراة) إعلانًا عن عمليّة الخلق التي تمّت بكلمة الله: “فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ … وَقَالَ ٱللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ” (التّكوين ١:١، ٣). بكل بساطة كلّ ذلك تمّ “لِأَنّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَار” (المَزامير ٣٣: ٦، ٩).
بعدها يسرد لنا الوحي قصّة أوّل أبويْن ويُطْلِعنا على مشيئة الله لهما بعد أن خلقهما على صورته – ذكرًا وأُنثَى. فنعلم يقينًا من خلال الوحي المقدّس المكتوب، أنّ الإنسان هو تاج عمليّة الخلق لأنه خُلِق على صورة الله. الله ميّز الإنسان عن باقي المخلوقات وباركه كي يُمثّله ويتسلّط على الأرض ويُخضِعها: “فَخَلَقَ ٱللهُ ٱلْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ ٱللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلَأُوا ٱلْأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى ٱلْأَرْضِ»” (التّكوين ١: ٢٧-٢٨).
تعكس لنا هذه الحقيقةُ العلاقةَ المميَّزة ما بين الإنسان والله. ولكن من ناحية أخرى يزوّدنا الوحي في أوّل صفحات الكتاب المقدّس (في الإصحاح الثّالث من ذات السِّفر) بصورة عن بداية صراع روحيّ مستمرّ الذي بدأَ مباشرةً بعدما خدعت الحيّةُ حوّاءَ وآدم بالجنّة (أي بدل أن يسود آدم وحوّاء على الحيّة بجنّة عدن، سادت هي عليهما بعد أن خدعتْهُما). وبسبب سقوط آدم نتيجةً لمكر الحيّة، وبصفته المسؤول ورأس الجنس البشريّ، لُعِنَت الأرض، بحسب قوْل الله: “… مَلْعُونَةٌ ٱلْأَرْضُ بِسَبَبِكَ …” (التّكوين ٣: ١٧)، وبذات الحدث لُعِنَت الحيّة أيضًا وأُصدِرَ الحُكم عليها لأنّها خدعت آدم وحوّاء. الحُكم كان وعْد من الله أنّه سيأتي مِن نسل المرأة (أي مولود من المرأة بدون زرع رجل) ذاك المُعيَّن ليسحق رأس الحيّة، بهذه الكلمات: “وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ” (التّكوين ٣: ١٥).
بهذا الوعد قدّم اللهُ:
١) رجاءً وأملًا لآدم وحوّاء لأنّ الله سيسحق الشّر ويُصلِح (يسترِدّ) العلاقة ما بينه وبين الجنس البشريّ (الإنسان).
٢) كشْفًا للانتصار الكامل والنّهائيّ لله على الشّيطان.
ومن المهم إيضاحه هو أنّ الحيّة، المكتوب عنها: “وَكَانَتِ ٱلْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ ٱلْبَرِّيَّةِ ٱلَّتِي عَمِلَهَا ٱلرَّبُّ ٱلْإِلَهُ…” (التّكوين ٣: ١) هي الشّيطان ذاته. ففي آخِر صفحات كتاب العهد الجديد (أي في نهاية الكتاب المقدّس) هناك كشْفٌ صريح أنّ الحيّة هي الشّيطان الذي يتّصِف بالمكر، وأنّه هو مَن قد أغوى (خدعَ) أوّل أبويْن ليفصلهما عن الحياة والبَرَكة اللتَيْن مصدرهما من الله: “فَطُرِحَ ٱلتِّنِّينُ ٱلْعَظِيمُ، ٱلْحَيَّةُ ٱلْقَدِيمَةُ ٱلْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَٱلشَّيْطَانَ، ٱلَّذِي يُضِلُّ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ، طُرِحَ إِلَى ٱلْأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلَائِكَتُهُ…”، ويستمرّ الوحي المقدّس (الذي يَعلم النّهاية منذ البداية) ويشرح عن نصيب الشّيطان ونبيّه الذي أضلّ وما زال يُضِلّ العالم من خلاله: “… وَإِبْلِيسُ ٱلَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ وَٱلْكِبْرِيتِ، حَيْثُ ٱلْوَحْشُ وَٱلنَّبِيُّ ٱلْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَارًا وَلَيْلًا إِلَى أَبَدِ ٱلْآبِدِينَ” (رُؤْيا يُوحَنّا ١٢: ٩، ٢٠: ١٠).
هذا بالضّبط هو المصير النهائيّ الذي تمّ إصدار الحُكم به على الشّيطان – الدّينونة القاسية والعادِلة التي سوف تتحقّق بالمستقبل بعدما يُضرب ويموت مولود المرأة (يسوع المسيح) بدون ذنب على الصّليب (بمثابة سحْق عقبه كما في النّبوّة)، لكنّه سيقوم من بين الأموات ساحقًا الشيطان، الخطيّة والموت لكي يُنقذ كلَّ من يؤمن بهِ من الغضب الآتي على العالم. وفي نهاية المطاف، عند مجيئه الثّاني في آخر الأيّام، سيسحق المسيح يسوع رأس الحيّة نهائيًّا والضّربة ستكون قاضية!
الله اهتمّ أن يُؤكّد تحقيق الوعد مرّة ثانية. فحوالي ١٩٤٨ سنة بعد أن وعد آدمَ وحوّاءَ بجنّة عدن بمجيء “نسل المرأة الذي سيسحق رأس الحيّة” والذي من خلاله سيردّ (اللهُ) مقاصده الأزليّة للجنس البشريّ، قال الله لإبراهيم: “وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ ٱلْأَرْضِ…” (التّكوين ٢٢: ١٨)، والقصد من “نسلك” هو المسيح الموعود الذي من خلاله ستتحقّق الوعود بالبَرَكة والحياة بدلاً من اللّعنة والموت اللذَين دخلا وملكا من خلال آدم وحوّاء “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهَكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ” (رُومِيَةَ ٥: ١٢) وذلك بعد أن خُدِعا وسقطا بفخّ الشيطان في جنّة عدن.
وبعد الوعد لإبراهيم بـ ١٢٩٠ سنة تقريبًا، الله أكّد وعده مرّة أخرى بوعده بني إسرئيل، من خلال الوحي لنبيّ الله باسم إشعياء، بمجيء “مولود المرأة” المعروف سابِقًا بأنّه سيسحق رأس الحيّة (الشّيطان). وهذه هي النّبوّة التي تخصّ مولود المرأة: “وَلٰكِنْ يُعْطِيكُمُ ٱلسَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْنًا وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»” (إِشَعْياء ٧: ١٤). و”العذراء” هي الشّابّة البتول التي لم تعرف رجُلًا بعْد.
هذه النّبوّة تحقّقت بذروتها من خلال العذراء مريم وهي ما زالت بتولًا لم تعرف رجُلًا (متّى ١: ٢٣)، والتي بقيت بتولًا إلى وقت ولادة يسوع المسيح (متّى ١: ١٨، ٢٥). مريم حبلت بطريقة عجيبة من خلال الرّوح القدس وليس من خلال زرع رجل، وهكذا تحقّقت أيضًا النّبوّة التي وعد اللهُ آدمَ وحوّاءَ بها في جنّة عدن حوالي ٤٠٠٠ سنة قبل ولادة يسوع المسيح من العذراء مريم، حين قال أنّه سيأتي بـ “نسل المرأة” لكي يسحق رأس الحيّة أي الشّيطان.
لكن الشّيطان لم يقف مكتوف اليديْن منذ أن سمع الله يُطلق نبوّة تحمل رجاءً للجنس البشريّ ليردّهم من قبضته (أي قبضة الشّيطان) القاسية والمُهينة والتي نتيجتها الهلاك في بحيرة النّار والكبريت، وخاصّةً عندما أصغَى لكلمات الدّينونة التي أصدرها الله عن نصيبه (أي نصيب الشّيطان) في نهاية المطاف بِسَحْق رأسه من خلال مولود المرأة ومصيره المحتوم في جهنّم هو وأعوانه. فمنذ تلك اللحظة كلّ ما يصنعه الشّيطان هو تشويه هويّة مخلّص العالم (مولود المرأة، الذي هو يسوع المسيح) وكلّ ما قيل عن هذا المولود، مثل طبيعته الأزليّة، آلامه، موته مصلوبًا، وقيامته من بين الأموات ليُحيي ويُنقذ كلّ من يؤمن بهِ من سُلطِة مَلك الموت – إبليس؛ وذلك بهدف اجتذاب أكبر عدد من البشر ليذهبوا للهلاك معه بسبب غيرته منهم لأنّهم محبوبو الله المخلوقين على صورته. لكن مكتوب: “إِذًا، بِمَا أَنَّ هَؤُلاَءِ الأَوْلاَدَ مُتَشَارِكُونَ فِي أَجْسَامٍ بَشَرِيَّةٍ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، اشْتَرَكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ بِاتِّخَاذِهِ جِسْمًا بَشَرِيًّا. وَهَكَذَا تَمَكَّنَ أَنْ يَمُوتَ، لِيَقْضِيَ عَلَى مَنْ لَهُ سُلْطَةُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُحَرِّرَ مَنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الْمَوْتِ يَسْتَعْبِدُهُمْ طَوَالَ حَيَاتِهِمْ.” (العِبرانِيِّين ٢: ١٤-١٥).
هكذا حقّق الله ما وعدَ بهِ من آلاف السّنين، وأكّده عدّة مرّات عن طريق الوحي مستخدمًا الأنبياء ورسله – فدمّر الحيّة (أي الشّيطان) التي أدخلت اللّعنة والخطيّة والموت لهذا العالم، وبالأخصّ تسبّبت بفصْل الجنس البشريّ عن الله: “لِأَجْلِ هَذَا أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللهِ لِكَيْ يَنْقُضَ (يُدمّر) أَعْمَالَ إِبْلِيسَ” (يوحنّا الأولى ٣: ٨).
يسوع المسيح هو ابن الله من الجانب الرّوحيّ (اللاهوتيّ) لأنّه كلمة الله الأزليّة التي بها خلق اللهُ العالمَ، لكنّه أيضًا ابن الإنسان من جهة الجسد لأنّه دخل إلى العالم آخذًا طبيعة إنسانيّة (مولودًا من المرأة كما وعد الله قبل آلاف السّنين). لذلك، يصرّح الوحي ويؤكّد بشهادته عن يسوع المسيح: “وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلَاصُ. لِأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ” (أعمال الرُّسُل ٤: ١٢).